فصل: مطلب فِي اسْتِئْذَانِ مُرِيدِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي اسْتِحْبَابِ تَسْلِيمِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ

‏(‏وَسَلِّمْ‏)‏ اسْتِحْبَابًا ‏(‏إذَا مَا جِئْت‏)‏ أَيْ‏:‏ زَمَانَ مَجِيئِك ‏(‏بَيْتَك‏)‏ عَلَى أَهْلِهِ ‏(‏تَهْتَدِ‏)‏ لِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ ‏,‏ وَفِعْلِك الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَحْرَى ‏.‏

أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ‏:‏ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك ‏"‏ ‏.‏

وَقَوْلُ النَّاظِمِ بَيْتَك مُجَارَاةٌ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَبَيْتُ غَيْرِهِ كَبَيْتِهِ ‏,‏ فَيُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ إنْ دَخَلَ بَيْتَهُ أَوْ بَيْتًا مَسْكُونًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ‏}‏ وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذَا وَلَجَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ ‏,‏ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا ‏,‏ وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ‏,‏ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ‏.‏

وَشَمِلَ إطْلَاقُ قَوْلِ النَّاظِمِ ‏(‏وَسَلِّمْ إذَا مَا جِئْت بَيْتَك‏)‏ مَا إذَا كَانَ بَيْتُهُ خَالِيًا وَهُوَ مُرَادٌ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَمَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ وَرَدَّ هُوَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي الرِّعَايَةِ ‏,‏ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ويعايى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسَلِّمَ هُوَ يَرُدُّ السَّلَامَ ‏.‏

وَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ تَخْرِيجٌ فِيمَنْ عَطَسَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ أَنَّهُ يَرُدَّ عَلَى نَفْسِهِ ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ اخْتِصَاصُ الْبَيْتِ الْمَسْكُونِ بِالسَّلَامِ دُونَ الْخَالِي وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ‏.‏

وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ‏,‏ وَلَمْ يَرُدَّ ابْنُ عُمَرَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ‏:‏ إذَا دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا أَوْ مَسْجِدًا خَالِيًا فَلْيَقُلْ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ‏{‏

فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ ‏,‏ قِيلَ‏:‏ بُيُوتَ أَنْفُسِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ وَعِيَالِكُمْ ‏,‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَسَاجِدُ سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا ‏,‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ ‏.‏

وَاَلَّذِي قَالَهُ وَجِيهُ الدِّينِ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ‏,‏ وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ ‏,‏ فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ‏.‏

وَالْمُعْتَمَدُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ خِلَافًا لِظَاهِرِ الرِّعَايَةِ ‏,‏ وَلَعَلَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ‏,‏ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

وَلَمَّا بَيَّنَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى طَرَفًا صَالِحًا مِنْ أَحْكَامِ السَّلَامِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى لَفْظِهِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي تَعْرِيفِ لَفْظِ السَّلَامِ وَتَنْكِيرِهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ

وَتَعْرِيفُهُ لَفْظَ السَّلَامِ مُجَوَّزٌ وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ ‏(‏وَتَعْرِيفُهُ‏)‏ أَيْ الْمُسَلِّمُ ‏(‏لَفْظَ السَّلَامِ‏)‏ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ‏(‏مُجَوَّزٌ‏)‏ أَيْ جَائِزٌ ‏(‏وَ‏)‏ يَجُوزُ ‏(‏تَنْكِيرُهُ‏)‏ أَيْ السَّلَامَ ‏(‏أَيْضًا‏)‏ بِأَنْ يَقُولَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ و الْأَمْوَاتِ وَالتَّحِيَّةِ وَالْوَدَاعِ ‏(‏عَلَى نَصِّ‏)‏ الْإِمَامِ ‏(‏أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ‏.‏

وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ هُنَا ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعَ عَرِّفْ كَرَدِّدِ ‏(‏وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ‏)‏ أَفْضَلُ ‏,‏ وَعَنْهُ تَعْرِيفُهُ أَفْضَلُ ‏,‏ وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ‏;‏ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَحَّتْ بِهِمَا ‏(‏وَقِيلَ‏)‏ الْأَفْضَلُ تَنْكِيرُهُ ‏(‏تَحِيَّةً‏)‏ أَيْ فِي سَلَامِ التَّحِيَّةِ ‏(‏كَ‏)‏ مَا أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْرِيفُهُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ فِي السَّلَامِ ‏(‏لِلْمَيِّتِ‏)‏ أَيْ عَلَى الْأَمْوَاتِ ‏(‏وَ‏)‏ فِي السَّلَامِ لِ ‏(‏لِتَوْدِيعِ‏)‏ أَيْ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ الْمَجْلِسِ ‏(‏عَرِّفْ‏)‏ لَفْظَ السَّلَامِ بِأَنْ تَقُولَ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي تَحِيَّةِ الْأَمْوَاتِ ‏,‏ وَكَذَا عِنْدَ التَّوْدِيعِ مِنْ مَجْلِسٍ قُمْت مِنْهُ فَتَقُولُ السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ‏.‏

قَالَهُ ابْنُ الْبَنَّا ‏,‏ قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ قَالَ ابْنُ الْبَنَّا‏:‏ سَلَامُ التَّحِيَّةِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْوَدَاعِ مُعَرَّفٌ ‏.‏

وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآدَابِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ الْبَنَّا‏:‏ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ‏:‏ سَلَامُ الْأَحْيَاءِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْأَمْوَاتِ مُعَرَّفٌ ‏.‏

كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقِيلَ عَكْسُهُ ‏.‏

قَالَ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ تَعْرِيفُ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏;‏ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْأَخْبَارِ ‏.‏

وَيُخَيَّرُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْحَيِّ ‏,‏ فَإِنْ شَاءَ عَرَّفَ وَإِنْ شَاءَ نَكَّرَ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَوْلُ النَّاظِمِ ‏(‏كردد‏)‏ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْرِيفُ السَّلَامِ فِي الرَّدِّ ‏.‏

وَتَكْرِيرُ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ضَرُورَةٌ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ ‏,‏ وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي السَّلَامَ الْأَوَّلَ ‏.‏

 مطلب فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ كَيْفَ أَصْبَحْت وَكَيْفَ أَمْسَيْت‏؟‏

‏(‏فَوَائِدُ‏:‏ الْأُولَى‏)‏ لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ كَيْفَ أَمْسَيْت وَكَيْفَ أَصْبَحْت ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه لِصَدَقَةَ وَهُمْ فِي جِنَازَةٍ‏:‏ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ أَمْسَيْت‏؟‏ فَقَالَ مَسَّاك اللَّهُ بِالْخَيْرِ ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا لِلْمَرُّوذِيِّ‏:‏ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا بَكْرٍ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ صَبَّحَك اللَّهُ بِالْخَيْرِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ‏.‏

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ ‏"‏ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَقَالَ ‏"‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ‏,‏ فَقَالُوا‏:‏ وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ‏؟‏ قَالُوا بِخَيْرِ نَحْمَدُ اللَّهَ كَيْفَ أَصْبَحْت بِأَبِينَا وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَصْبَحْت بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللَّهَ ‏"‏ ‏.‏

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قُلْت ‏"‏ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا وَلَمْ يَعُدْ سَقِيمًا ‏"‏ وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ ضَعِيفٌ ‏.‏

وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْكَبِيرِ عِنْدَ كِتَابِ النُّذُورِ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَوْ لَقِيت رَجُلًا فَقَالَ لِي‏:‏ بَارَكَ اللَّهُ فِيك لَقُلْت وَفِيك ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِنَحْوِ كَيْفَ أَصْبَحْت وَكَيْفَ أَمْسَيْت بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ وَأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِذَلِكَ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ وَجَوَابُهُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ قَوْلِهِمْ‏:‏ أَبْقَاك اللَّهُ

‏(‏الثَّانِيَةُ‏)‏‏:‏ قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْآدَابِ كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ أَبْقَاك اللَّهُ‏:‏ أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ‏:‏ رَأَيْت أَبِي إذَا دُعِيَ لَهُ بِالْبَقَاءِ يَكْرَهُهُ ‏,‏ وَيَقُولُ هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ‏.‏

وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ‏.‏

وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ لَمَّا سَأَلَتْ ‏,‏ أَنْ يَمْنَعَهَا اللَّهُ بِزَوْجِهَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِيهَا مُعَاوِيَةَ ‏,‏ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّك سَأَلْت اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حَلِّهِ وَلَا يُؤَخَّرُ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ حَلِّهِ ‏,‏ وَلَوْ سَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَك مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا لَك ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ حَلِّهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ مُهْمَلَةً وَكَسْرِهَا أَيْ وُجُوبِهِ قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ‏:‏ قَبْلَ حَلِّهِ أَيْ يُؤَخِّرُهُ عَنْ حَلِّهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ ضَبْطُهُ أَيْ وُجُوبِهِ ‏,‏ وَكَذَلِكَ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ حُلُولًا وَأَحَلَّ إحْلَالًا خَرَجَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ‏,‏ وَمِنْ مِيثَاقٍ عَلَيْهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَضَبَطَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ‏"‏ وَفِي أُخْرَى ‏"‏ وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه وَقَالَ‏:‏ حَسَنٌ غَرِيبٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ ‏,‏ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إلَّا الْبِرُّ ‏"‏ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ إسْنَادٌ جَيِّدٌ ‏.‏

 مطلب فِي كَتْبِهِمْ فِي الرَّسَائِلِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِي

وَأَنَّهُ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ ‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ مِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا ‏.‏

قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ‏:‏ لَا أَدْرِي مِمَّنْ أَخَذُوهُ ‏,‏ وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَجَلُّ الدُّعَاءِ ‏,‏ وَنَحْنُ نَدْعُو رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَمَنْعِ هَذَا فَفِيهِ انْقِلَابُ الْمَعْنَى ‏.‏

وَقَدْ حَكَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ أَنَّهُ دُعَاءٌ مُحْدَثٌ ‏,‏ وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ ‏,‏ قُلْت‏:‏ وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَرِهَهُ لِعَدَمِ الْوُرُودِ ‏,‏ وَإِلَّا فَالْعِلَّةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِهِ ‏,‏ وَمَقَادِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا مِنْ السَّعَادَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ ‏,‏ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُطِيعِينَ وَأَضْدَادِهَا كَمَا لَا يَخْفَى ‏.‏

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ‏"‏ اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِهِ ‏"‏ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ بَدْرٍ وَفَاةً وَمِنْ دُعَائِهِ عليه الصلاة والسلام ‏"‏ اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي ‏"‏ وَمِنْهُ ‏"‏ اللَّهُمَّ عَافَنِي فِي جَسَدِي وَعَافَنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي ‏"‏ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَضْرَابِهِ ‏,‏ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ قَوْلِهِمْ فِي السَّلَامِ جُعِلْت فِدَاك

‏(‏الرَّابِعَةُ‏)‏‏:‏ قَالَ الْخَلَّالُ‏:‏ كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ‏:‏ جُعِلْت فِدَاك ‏.‏

قَالَ بِشْرُ بْنُ مُوسَى سَأَلَ رَجُلٌ ‏,‏ وَأَنَا أَسْمَعُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ جُعِلْت فِدَاك فَقَالَ‏:‏ لَا تَقُلْ هَكَذَا فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ ‏,‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ‏,‏ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ هَذَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْهُ لِصِحَّةِ غَيْرِهِ ‏,‏ ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ‏.‏

وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ غَيْرِهِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ‏:‏ فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ انْتَهَى ‏,‏ قُلْت‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ‏:‏ أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا فِدَاءُ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إنَّهُ أَنْصَفُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ‏:‏ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك مَرَّتَيْنِ ‏.‏

وَقَالَ الْخَلَّالُ‏:‏ قَوْلُهُ فِي السَّلَامُ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ‏:‏ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ‏,‏ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ‏;‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِدَاءٍ حَقِيقَةً ‏,‏ وَإِنَّمَا هُوَ بِرٌّ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ ‏.‏

وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ ‏,‏ وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالْأَبَوَيْنِ يَعْنِي الْكَرَاهَةَ دُونَ وَأَنَا فِدَاك ‏.‏

وَالْمُعْتَمَدُ لَا كَرَاهَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ ‏,‏ وَكَثْرَتِهَا عَنْ الْمُخْتَارِ ‏,‏ فَإِنَّهَا كَادَتْ تُجَاوِزُ حَدَّ الْحَصْرِ ‏.‏

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ مَنَاقِبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ

‏(‏تَتِمَّةٌ‏)‏ فِي بَعْضِ مَنَاقِبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَرَفٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِ النَّاظِمِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ ‏.‏

أَقُولُ‏:‏ هُوَ الْإِمَامُ الْمُبَجَّلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ - بِالْمُثَنَّاةِ تَحْتَ - بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ مَازِنِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ - بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ - ابْنِ أَفْصَى - بِالْفَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - ابْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَاءَ الشَّيْبَانِيُّ الْمَرُّوذِيُّ الْبَغْدَادِيُّ ‏.‏

هَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمْ ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ الْبِرْمَاوِيُّ‏:‏ الشَّيْبَانِيُّ ‏;‏ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ ذُهْلِ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ ثَعْلَبَةَ كَمَا نَسَبَهُ وَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَاعْتَمَدَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ ‏.‏

وَغَلِطَ الْخَطِيبُ عَبَّاسًا الدَّوْرِيَّ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوَدَ ابْنِ مَأْكُولَا فِي قَوْلِهِمَا إنَّهُ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَقَالَ وَذُهْلٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ هُوَ عَمُّ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ ‏.‏

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ وَشَيْبَانُ حَيٌّ مِنْ بَكْرٍ وَهُمَا شيبانان أَحَدُهُمَا شَيْبَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنُ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ‏,‏ وَالْآخَرُ شَيْبَانُ بْنُ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ ‏,‏ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ الْخَطِيبُ ‏.‏

وَقُدِّمَ فِي الْمُغْنِي ذُهْلٌ عَلَى شَيْبَانَ وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ شَيْبَانَ كَمَا ذَكَرْنَا ‏.‏

حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِمَرْوَ وَوُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِهَا وَأَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ‏,‏ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالشَّامَ وَالْيَمَنَ وَالْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ وَالْجَزِيرَةَ ‏.‏

وَسَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانَ وَهُشَيْمًا وَوَكِيعًا وَابْنَ عُلَيَّةَ وَابْنَ مَهْدِيٍّ وَعَبْدَ الرَّزَّاقِ وَخَلَائِقَ كَثِيرِينَ ذَكَرَهُمْ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ‏.‏

وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو الْوَلِيدِ وَابْنُ مَهْدِيٍّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَالدِّمَشْقِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ هَانِئٍ الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ وَحَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَوَلَدَاهُ والْمَرُّوذِيُّ وَخَلَائِقُ كَثِيرُونَ ذَكَرَهُمْ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَنَاقِبِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ‏.‏

وَاجْتَمَعَ بِالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ‏,‏ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَخَذَ عَنْ الْآخَرِ ‏,‏ وَلَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ آخِرَ الصَّدَقَاتِ تَعْلِيقًا ‏.‏

وَقَالَ الْحَازِمِيُّ‏:‏ إنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِيثًا ثَانِيًا بِوَاسِطَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ ‏.‏

وَفَضَائِلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَشْهُورَةٌ ‏,‏ وَمَنَاقِبُهُ مَأْثُورَةٌ ‏,‏ سَارَتْ بِذَكَرِهِ الرُّكْبَانُ ‏,‏ وَبَلَغَ صِيتُهُ كُلَّ قَاصٍ وَدَانٍ ‏,‏ وَمَلَأَ ذِكْرُهُ الْأَمْصَارَ وَالْبُلْدَانَ ‏.‏

وَكُلُّ إمَامٍ فِي عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَضَعَ لَهُ وَدَانَ ‏.‏

قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما‏:‏ خَرَجْت مِنْ بَغْدَادَ وَمَا خَلَّفْت بِهَا أَحَدًا أَوْرَعَ وَلَا أَتْقَى وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَعْلَمَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ لِوَلَدِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ كَانَ أَبُوك يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيك‏؟‏ فَقَالَ ذَاكَرْته فَأَخَذْت عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ ‏.‏

قُلْت‏:‏ فِي ثِمَارِ مُنْتَهَى الْعُقُولِ فِي مُنْتَهَى النُّقُولِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ مَا نَصُّهُ‏:‏ انْتَهَى الْحِفْظُ لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فَرِيدٌ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ ‏,‏ وَكَانَ يَحْفَظُ كُتُبًا حِمْلَ ثَمَانِينَ بَعِيرًا ‏.‏

وَحَفِظَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ أَلْفَ كُرَّاسٍ وَحَفِظَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ بَيْتِ مِنْ الشَّعْرِ اسْتِشْهَادًا لِلنَّحْوِ ‏.‏

وَكَانَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَحْفَظُ مِنْ مَرَّةٍ أَوْ نَظْرَةٍ ‏.‏

وَابْنُ سِينَا الْحَكِيمُ حَفِظَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ‏.‏

وَأَبُو زُرْعَةَ كَانَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ ‏.‏

وَالْبُخَارِيُّ حَفِظَ عُشْرَهَا أَيْ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ ‏.‏

وَالْكُلُّ مِنْ بَعْضِ مَحْفُوظِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنه انْتَهَى ‏.‏

وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ أَحَدٌ بِسُنَّةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم غَيْرَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ‏.‏

وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ امْتَازَ بِهَا عَنْ سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَمَّنْ مَضَى ‏,‏ وَعَمَّنْ بَقِيَ مِنْ الْأَئِمَّةِ ‏.‏

وَلِذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ‏:‏ يَقُولُ النَّاسُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِالتَّوَهُّمِ وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ مَزِيَّةً ‏,‏ وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَقْدِرُ قَدْرَهُ ‏,‏ وَلَا يَعْرِفُ مِنْ الْإِسْلَامِ مَحَلَّهُ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَقَدْ صَحِبْته عِشْرِينَ سَنَةً صَيْفًا وَشِتَاءً وَحَرًّا وَبَرْدًا وَلَيْلًا وَنَهَارًا فَمَا لَقِيته فِي يَوْمٍ إلَّا وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ ‏.‏

وَلَقَدْ كَانَ يَقْدُمُ أَئِمَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ وَإِمَامَ كُلِّ مِصْرٍ فَهُمْ بِجَلَالَتِهِمْ مَا دَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ‏,‏ صَارَ غُلَامًا مُتَعَلِّمًا ‏.‏

وَقَالَ الْحَرْبِيُّ أَيْضًا‏:‏ قَدْ رَأَيْت رِجَالَاتِ الدُّنْيَا لَمْ أَرَ مِثْلَ ثَلَاثَةٍ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَتَعْجِزُ النِّسَاءُ أَنْ تَلِدَ مِثْلَهُ ‏,‏ وَرَأَيْت بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ مَمْلُوءًا عَقْلًا ‏,‏ وَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ كَأَنَّهُ جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ عِلْمٌ ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ‏:‏ مَا رَأَيْت مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ‏.‏

قَالُوا لَهُ‏:‏ وَأَيُّ شَيْءٍ بَانَ لَك مِنْ فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ عَلَى سَائِرِ مَنْ رَأَيْت‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَجُلٌ سُئِلَ عَنْ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا بِأَنْ قَالَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَرَوَيْنَا ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَهَذِهِ كَالْأُولَى لَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا فَعَلَهَا ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ مِعْشَارِ عُشْرِ ذَلِكَ فَأَحْجَمَ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ أَكْثَرِهَا ‏.‏

وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الصَّرْصَرِيُّ فِي لَامِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ حَوَى أَلْفَ أَلْفٍ مِنْ أَحَادِيثَ أُسْنِدَتْ وَأَثْبَتَهَا حِفْظًا بِقَلْبٍ مُحَصِّلِ أَجَابَ عَلَى سِتِّينَ أَلْفَ قَضِيَّةٍ بِأَخْبَرِنَا لَا مِنْ صَحَائِفِ نُقَّلِ وَكَانَ إمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَحُجَّةً لِنَقْدٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ وَمُعَلَّلِ وَكَانَ إمَامًا فِي كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَعِلْمٍ وَزُهْدٍ كَامِلٍ وَتَوَكُّلِ فَمَنْهَجُهُ فِي الْحَقِّ أَقْوَمُ مَنْهَجٍ وَمَوْرِدُهُ فِي الشَّرْعِ أَعْذَبُ مَنْهَلِ وَهُدِّدَ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّوْطِ وَالظُّبَا فَلَمْ يَخْشَ مِنْ تَهْدِيدِ سَوْطٍ وَمِنْصَلِ فَمَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَقُلْ مُتَصَدِّيًا لِنَصْرِ الْهُدَى فَرْدًا عَلَى أَلْفِ جَحْفَلِ وَمَنْ قَالَ فِي دِينِ الْهُدَى مُتَخَرِّصًا بِآرَائِهِ مَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يَعْدِلْ فَقَدْ كَانَ كَالصِّدِّيقِ فِي يَوْمِ رِدَّةٍ وَعُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فِي الصَّبْرِ إذْ بُلِي وَفِي الضَّرْبِ إذْ حُلَّتْ سَرَاوِيلُهُ دَعَا فَمَا فَارَقَتْ حَقْوَيْ مُحِقٍّ مُسَرْوَلِ وَسَافَرَ مِنْ بَغْدَادَ مِنْ وَرَعٍ إلَى خُرَاسَانَ فِي رَدِّ الْيَرَاعِ الْمُسَجَّلِ وَمِنْ وَرَعٍ قَدْ كَانَ يَطْوِي ثَمَانِيًا مُوَاصَلَةً فِي عَسْكَرِ الْمُتَوَكِّلِ هُوَ الْعَلَمُ الْمَشْهُورُ لَمْ يَطْوِ ذِكْرَهُ مَمَاتٌ بَلْ اسْتَعْلَى عَلَى كُلِّ مُعْتَلِ إمَامٌ عَظِيمٌ كَانَ لِلَّهِ حُجَّةً عَلَى نَفْيِ تَشْبِيهٍ وَدَحْضٍ مُعَطِّلِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ - رَحِمَ اللَّهُ رُوحَهُ -‏:‏ إنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَمَرَنِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إلَّا مِنْ كِتَابٍ ‏.‏

وَقَالَ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعَزَّ هَذَا الدِّينَ بِرَجُلَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا ثَالِثٌ ‏,‏ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَوْمَ الرِّدَّةِ ‏,‏ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَا قَامَ أَحَدٌ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قِيلَ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏؟‏ قَالَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ‏,‏ إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لَهُ أَعْوَانٌ وَأَصْحَابٌ ‏,‏ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْوَانٌ وَلَا أَصْحَابٌ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ‏:‏ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إمَامُنَا إنِّي لَأَتَزَيَّنُ بِذِكْرِهِ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنَا أَنْظُرُ رَجُلًا عِنْدَهُ ‏,‏ فَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏؟‏ فَقُلْت مَنْ لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مِثْلُهُ ‏,‏ قَالَ مَنْ‏؟‏ قُلْت أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ‏.‏

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ صَدَقَ لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مِثْلُهُ ‏,‏ مَا رَأَيْت رَجُلًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ ‏.‏

وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ رضي الله عنه‏:‏ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَجَّةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ فِي أَرْضِهِ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ‏:‏ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ خَيْرٍ ‏,‏ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْمَعَ مِنْهُ ‏,‏ وَمَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْمَلَ مِنْهُ ‏.‏

وَقَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ‏:‏ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الرِّدَّة ‏,‏ وَعُمَرُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ ‏,‏ وَعُثْمَانُ يَوْمَ الدَّارِ ‏,‏ وَعَلِيٌّ يَوْمَ صِفِّينَ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ‏:‏ رَأَيْت مِائَتِيْ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ فَمَا رَأَيْت مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ‏,‏ لَمْ يَخُضْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ النَّاسُ ‏,‏ فَإِذَا ذُكِرَ الْعِلْمُ تَكَلَّمَ ‏.‏

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ‏:‏ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي زَمَانِهِ ‏,‏ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي زَمَانِهِ ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ‏:‏ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَرُدُّوهُ إلَى عَالِمِهِ ‏"‏ رَدَدْنَاهُ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ‏.‏

وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ ‏,‏ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ وَمَآثِرُهُ شَهِيرَةٌ رضي الله تعالى عنه ‏,‏ وَنَفَعَنَا بِمَحَبَّتِهِ ‏.‏

وَقَدْ صَنَّفَ فِي مَنَاقِبِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين جَمَاعَةٌ كَابْنِ مَنْدَهْ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيِّ ‏,‏ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيِّ ‏,‏ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ ‏,‏ وَابْنِ نَاصِرٍ ‏,‏ وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

وَمَنَاقِبُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَآثِرُهُ وَسِيَادَتُهُ وَبَرَاعَتُهُ وَزَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ وَدِرَايَتُهُ وَمَجْمُوعُ مَحَاسِنِهِ كَالشَّمْسِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَغْرُبُ رضي الله عنه وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِ آمِينَ ‏.‏

وُلِدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ‏,‏ وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِنَحْوٍ مِنْ سَاعَتَيْنِ مِنْ النَّهَارِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ‏,‏ فَمُدَّةُ حَيَّاتِهِ رضي الله عنه سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً ‏,‏ وَوَهِمَ الْمَنَاوِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ ‏,‏ فَزَادَ عَلَى عُمْرِهِ عَشْرَ سِنِينَ ‏,‏ وَهُوَ سَبْقٌ بِلَا شَكٍّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

صَنَّفَ الْمُسْنَدَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ غَيْرَ الْمُكَرَّرِ وَالتَّفْسِيرَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ‏,‏ وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ‏,‏ وَالتَّارِيخَ ‏,‏ وَحَدِيثَ شُعْبَةَ ‏,‏ وَالزُّهْدَ ‏,‏ وَالْمُقَدَّمَ وَالْمُؤَخَّرَ فِي الْقُرْآنِ ‏,‏ وَجَوَابَاتِ الْقُرْآنِ ‏,‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ ‏,‏ وَالْمَنَاسِكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ ‏,‏ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ ‏.‏

وَكَانَ رضي الله عنه شَيْخًا وَقُورًا كَثِيرَ التَّوَاضُعِ يُحِبُّ الْفُقَرَاءَ ‏,‏ لَمْ يَرَ الْفَقِيرُ نَفْسَهُ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنه ‏.‏

وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ ‏,‏ دَائِمَ الْبِشْرِ ‏,‏ لَيِّنَ الْجَانِبِ ‏,‏ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ‏,‏ يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيَبْغَضُ فِي اللَّهِ ‏,‏ وَإِذَا أَحَبَّ رَجُلًا أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ‏,‏ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ ‏.‏

وَقَالَ يَزِيدُ الْمُنَادِي‏:‏ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ أحيا النَّاسِ وَأَكْرَمِهِمْ نَفْسًا ‏,‏ وَأَحْسَنِهِمْ عِشْرَةً وَأَدَبًا ‏,‏ كَثِيرَ الْأَطْرَاقِ وَالْغَضِّ ‏,‏ مُعْرِضًا عَنْ الْقَبِيحِ وَاللَّغْوِ ‏,‏ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا الْمُذَاكَرَةُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالطُّرُقِ وَذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ ‏,‏ فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ ‏.‏

وَإِذَا لَقِيَهُ إنْسَانٌ سُرَّ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَكَانَ يَتَوَاضَعُ تَوَاضُعًا شَدِيدًا ‏,‏ وَكَانُوا يُكْرِمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ ‏.‏

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ‏:‏ كُنَّا فِي مَجْلِسِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ الْأَسَدِيَّ وَمَعَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْفَقِيهُ الْقَاضِي ‏,‏ فَخَاضُوا فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ ذِكْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ ‏,‏ فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ‏:‏ وَهَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا مَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ‏؟‏ حَفِظَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْرِفَةَ بِسُنَّتِهِ وَاخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم ‏.‏

قُلْت‏:‏ لَمْ يَبْقَ بَعْدَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ رحمه الله تعالى سِوَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ ‏,‏ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ حَيْثُ لَا نَصَّ ‏,‏ وَأَحْمَدُ رضي الله عنه قَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ‏,‏ فَهُوَ أَجْدَرُ الْأَئِمَّةِ بِالصَّوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَنَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُذْهَبُ إلَى الْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ‏,‏ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الِاحْتِجَاجِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ لَا يُعَارِضُهَا نَصٌّ ‏,‏ وَلَا مِثْلُهَا فَمَذْهَبُنَا اتِّبَاعُ الْمَنْقُولِ ‏,‏ وَتَقْدِيمُ خَبَرِ الرَّسُولِ ‏,‏ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ الْفُحُولِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ ‏,‏ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

وَقَالَ الْخَلَّالُ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ قَالَ لِي أَحْمَدُ‏:‏ مَا كَتَبْت حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا ‏,‏ وَقَدْ عَمِلْت بِهِ حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا ‏,‏ فَأَعْطَيْت الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْت ‏.‏

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ‏:‏ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ‏:‏ كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ زُهَاءٌ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ ‏,‏ وَيَزِيدُونَ أَقَلُّ مِنْ خَمْسمِائَةِ يَكْتُبُونَ ‏,‏ وَالْبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ الْأَدَبِ وَحُسْنَ السَّمْتِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ‏:‏ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَتَبَ مِنْ مِصْرَ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سَلْمَانَ وَقَالَ‏:‏ اذْهَبْ بِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأْتِنِي بِالْجَوَابِ ‏,‏ فَجَاءَ بِهِ إلَيْهِ ‏,‏ فَلَمَّا قَرَأَهُ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ ‏.‏

وَكَانَ الشَّافِعِيُّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لَهُ‏:‏ اُكْتُبْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وأقرأ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ إنَّك سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُمْ يَرْفَعْ اللَّهُ لَك عَلَمًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏.‏

فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ الْبِشَارَةَ ‏,‏ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ وَجَوَابَ الْكِتَابِ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَيُّ شَيْءٍ دَفَعَ إلَيْك‏؟‏ قَالَ الْقَمِيصَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ ‏,‏ قَالَ لَيْسَ نَفْجَعُك بِهِ ‏,‏ وَلَكِنْ بِلَّهُ وَادْفَعْ إلَيْنَا الْمَاءَ حَتَّى نُشْرِكَك فِيهِ ‏.‏

قَالَ الرَّبِيعُ فَغَسَلْته وَحَمَلْت مَاءَهُ إلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي قنية وَكُنْت أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَاشْتُهِرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ ‏,‏ وَتَحَلَّتْ بِهَا الْكُتُبُ الْمُدَوَّنَةُ ‏,‏ وَاشْتُهِرَتْ فِي الْمَحَافِلِ عَلَى الْأَلْسِنَة ‏.‏

وَأَنْشَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ فُلَانٍ التِّرْمِذِيُّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رضي الله عنه قَصِيدَةً لَهُ فِيهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فَمِنْهَا قَوْلُهُ‏:‏ إذَا مَيَّزَ الْأَشْيَاءَ يَوْمًا وَحَصَّلُوا فَأَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْمَشَايِخِ جَوْهَرُ إذَا افْتَخَرَ الْأَقْوَامُ يَوْمًا بِسَيِّدٍ فَفِيهِ لَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَفْخَرُ فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ رُوَيْدَك عَنْ إدْرَاكِهِ سَتَقْصُرُ حَمَى نَفْسَهُ الدُّنْيَا وَقَدْ سَمَحَتْ لَهُ فَمَنْزِلُهُ إلَّا مِنْ الْقُوتِ مُقْفِرُ فَإِنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا مُقِلًّا فَإِنَّهُ مِنْ الْأَدَبِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ مُكْثِرُ وَقَالَ الْإِمَامُ بِشْرٌ الْحَافِي رضي الله عنه‏:‏ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَامَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ أُدْخِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْكِيرَ فَخَرَجَ ذَهَبَةً حَمْرَاءَ ‏.‏

وَقَدْ رُوِينَا بِالْإِسْنَادِ إلَى بِشْرٍ قَالَ سَمِعْت الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ يَقُولُ‏:‏ سُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْفُتُوَّةِ ‏,‏ فَقَالَ الْفُتُوَّةُ الْعَقْلُ وَالْحَيَاءُ ‏,‏ وَرَأْسُهَا الْحَافِظُ ‏,‏ وَزِينَتُهَا الْحِلْمُ وَالْأَدَبُ ‏,‏ وَشَرَفُهَا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ ‏,‏ وَحِلْيَتُهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ ‏,‏ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ ‏,‏ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ ‏,‏ وَحِفْظُ الْجَارِ وَتَرْكُ التَّكَبُّرِ وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَالْوَقَارُ وَغَضُّ الطَّرْفِ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ وَأَبَرُّ الْفِتْيَانِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَاجْتِنَابُ الْحَلِفِ وَإِظْهَارُ الْمَوَدَّةِ وَإِطْلَاقُ الْوَجْهِ وَإِكْرَامُ الْجَلِيسِ وَالْإِنْصَاتُ لِلْحَدِيثِ وَكِتْمَانُ السِّرِّ وَسَتْرُ الْعُيُوبِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَتَرْكُ الْخِيَانَةِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ ‏,‏ وَالصَّمْتُ فِي الْمَجَالِسِ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ ‏,‏ وَالتَّوَاضُعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ‏,‏ وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ ‏,‏ وَالرِّفْقُ بِالصَّغِيرِ ‏,‏ وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمِسْكَيْنِ ‏,‏ وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ ‏,‏ وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَكَمَالُ الْفُتُوَّةِ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْبَغِي لِلْفَتَى أَنْ تَكُونَ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ ‏,‏ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَتًى حَقًّا ‏.‏

قَالَ بِشْرٌ‏:‏ وَكَذَلِكَ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَتًى ‏;‏ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ كُلَّهَا ‏.‏

‏(‏خَاتِمَةٌ‏)‏ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَجَّهَ ابْنُ طَاهِرٍ بِمَنَادِيلَ فِيهَا ثِيَابٌ وَطِيبٌ ‏,‏ فَقَالَ الرَّسُولُ لِوَلَدِهِ صَالِحٍ‏:‏ الْأَمِيرُ يُقْرِئُك السَّلَامَ قَدْ فَعَلْت مَا لَوْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَاضِرًا لَكَانَ فَعَلَهُ قَالَ صَالِحٌ فَأَرْسَلْت إلَيْهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانَ أَعْفَاهُ مِمَّا يَكْرَهُ ‏,‏ وَهَذَا مِمَّا يَكْرَهُ ‏,‏ فَعَادَ إلَيْهِ الرَّسُولُ يَقُولُ يَكُونُ شِعَارُهُ وَلَا يَكُونُ دِثَارُهُ ‏,‏ فَأَعَدْت إلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ ذَلِكَ ‏,‏ وَلَمْ يَقْبَلْهُ ‏.‏

وَكَانَتْ جَارِيَةُ الْإِمَامِ رضي الله عنه أَعَدَّتْ لَهُ ثَوْبًا عُشَارِيًّا مِنْ غَزْلِهَا ‏,‏ قُدِّرَ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَطَعُوهُ لَهُ لِفَافَتَيْنِ وَأَخَذُوا مِنْ فُورَانَ لِفَافَةً أُخْرَى ‏.‏

قَالَ وَلَدُهُ فَأَدْرَجْنَاهُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ وَاشْتَرَيْنَا لَهُ حَنُوطًا ‏,‏ وَحَضَرَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَ تَكْفِينِهِ ‏,‏ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ جَبْهَتَهُ حِينَ وُضِعَ عَلَى السَّرِيرِ ‏.‏

وَأَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي صَلَّوْا عَلَيْهِ فَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِمِثْلِهِ ‏.‏

قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ ‏.‏

وَقَدْ حَزَرَ الْمَوْضِعُ مَسْحَهُ عَلَى التَّصْحِيحِ فَإِذَا هُوَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ ‏,‏ وَحَزَرْنَا عَلَى السُّورِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا مِنْ النِّسَاءِ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا هُوَ أَلْفُ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى مَا كَانَ فِي السُّفُنِ ‏.‏

وَفِي أُخْرَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ عَنْ وَالِدِهِ‏:‏ قُولُوا لِأَهْلِ الْبِدَعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَوْمُ الْجَنَائِزِ ‏.‏

وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ تُرَ جِنَازَةٌ مِثْلُهَا إلَّا جِنَازَةٌ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رضي الله عنه وَوَقَعَ الْمَأْتَمُ بِسَبَبِ مَوْتِهِ رضي الله عنه فِي أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ ‏,‏ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ‏,‏ وَأَسْلَمَ يَوْمَ مَوْتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْجِنِّ حَضَرَتْ جِنَازَتَهُ إلَّا الْمَرَدَةَ ‏.‏

ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ‏.‏

وَنَعَتَهُ الْجِنُّ الْمُؤْمِنُونَ ‏.‏

وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الصَّرْصَرِيُّ رحمه الله فِي اللَّامِيَّةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَعِشْرُونَ أَلْفًا أَسْلَمُوا حِينَ عَايَنُوا جِنَازَتَهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُضَلِّلِ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ مُوَحِّدٍ وَسِتُّمِئَيْ أَلْفٍ فَأَعْظَمِ وَأَكْمِلْ فَقَدْ بَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلنَّاسِ فَضْلُهُ كَمَا كَانَ حَيًّا فَضْلُهُ ظَاهِرٌ جَلِيّ أَقَرَّ لَهُ بِالْفَضْلِ أَعْيَانُ وَقْتِهِ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْمُبَجَّلِ إلَى مَا يَطُولُ نَقْلُهُ ‏,‏ وَيَكْثُرُ عَلُّهُ ونهله ‏.‏

وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَآثِرِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَمْ نَذْكُرْهُ كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ لُجِّيٍّ ‏.‏

وَإِنَّمَا حَلَّيْنَا كِتَابَنَا هَذَا بِطَرَفٍ مِنْ ذِكْرِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ ذِكْرِهِ ‏.‏

فَرِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏,‏ وَأَمَاتَنَا اللَّهُ عَلَى طَرِيقِهِ وَحُبِّهِ ‏,‏ بِبَرَكَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وَآلِهِ وَحِزْبِهِ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ ‏,‏ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏.‏

ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى الِاسْتِئْذَانَ وَأَحْكَامَهُ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي اسْتِئْذَانِ مُرِيدِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ

وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِينَ وَبُعَّدِ ‏(‏وَسَنَةٌ‏)‏ بِالتَّنْوِينِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةً‏:‏ الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ ‏,‏ حَمِيدَةً كَانَتْ أَوْ ذَمِيمَةً ‏,‏ وَالْجَمْعُ سُنَنٌ ‏,‏ مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ ‏.‏

وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَمَا قَدَّمْنَا ‏.‏

وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ ‏(‏اسْتِئْذَانُهُ‏)‏ أَيْ اسْتِئْذَانُ مُرِيدِ الدُّخُولِ ‏,‏ وَهُوَ بِالنَّقْلِ لِلْوَزْنِ أَيْ طَلَبُ الْإِذْنِ ‏(‏لِدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ‏)‏ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ دَخَلَ ‏,‏ وَإِلَّا رَجَعَ ‏,‏ وَسَوَاءٌ كَانَ أَرْبَابُ الْمَنْزِلِ الْمَطْلُوبِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ ‏(‏مِنْ أَقْرَبِينَ‏)‏ لِلْمُسْتَأْذِنِ يَعْنِي أَقَارِبًا لَهُ ‏,‏ وَلَوْ مَحَارِمَ أَ ‏(‏و‏)‏ كَانُوا مِنْ ‏(‏بُعَّدِ‏)‏ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةً جَمْعُ بِعِيدٍ ضِدُّ الْقَرِيبِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرَابَةِ يَعْنِي أَجْنَبِيًّا ‏,‏ وَذَلِكَ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا

وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏.‏ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ ‏,‏ يَعْنِي يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ إلَى بَيْتِ غَيْرِهِ ‏.‏

وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا‏:‏ تَسْتَأْذِنُوا ‏,‏ وَقَطَعَ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ ابْنُ مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ عَلَى الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ ‏.‏

ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم نَحْوُ ذَلِكَ ‏.‏

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي‏؟‏ قَالَ نَعَمْ ‏.‏

فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ ‏.‏

قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ ‏.‏

وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا ‏,‏ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ إلَى ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ قَالَ إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ ‏,‏ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ ‏,‏ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ ‏,‏ فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ ‏,‏ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ ‏.‏

الْحِجَالُ جَمْعُ حَجَلَةٍ بِالتَّحْرِيكِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يَسْتُرُ الثِّيَابَ ‏,‏ وَلَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ محكمة ‏,‏ وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا‏}‏ ‏;‏ لِأَنَّ الْبَالِغَ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ‏,‏ وَالطِّفْلُ وَالْمَمْلُوكُ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي كِتَابِهِ قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْقُرْآنِ‏:‏ قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا‏}‏قَالُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ تَسْتَأْنِسُوا خَطَأٌ ‏,‏ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِئْنَاسُ‏؟‏ قَالَ يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِالتَّسْبِيحَةِ وَالتَّكْبِيرَةِ وَالتَّحْمِيدَةِ أَوْ يَتَنَحْنَحُ ‏,‏ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا مُحْكَمَتَانِ ‏,‏ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْحُكْمَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْبُيُوتِ ثُمَّ نُسِخَتْ مِنْهَا الْبُيُوتُ الَّتِي لَا سَاكِنَ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ‏}‏ أَيْ مَنْفَعَةٌ لَكُمْ الْآيَةَ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخَانَاتُ ‏,‏ وَمَا بُنِيَ لِلسَّابِلَةِ ‏,‏ أَوْ جَمِيعِ الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا سَاكِنٌ ‏;‏ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَان إنَّمَا وَرَدَ لِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى الْعَوْرَاتِ ‏,‏ فَإِذَا أُمِنَ ذَلِكَ جَازَ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إذْنٍ ‏.‏

وَقَالَ فِي قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ‏}‏ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا‏}‏ ثُمَّ ذَكَر كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ بَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ‏.‏

قَالُوا‏:‏ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاَللَّهِ ‏,‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا فَقَالَ‏:‏ الْمُسْتَعَانُ بِاَللَّهِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ‏:‏ إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ‏:‏ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا وَاَللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهَا النَّاسُ انْتَهَى ‏.‏

وَأَمَّا الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَلَمْ يَذْكُرْ الْآيَةَ فِي الْمَنْسُوخِ الْبَتَّةَ فِي كِتَابِهِ الْمُصَفَّى بِإِلْفِ أَهْلِ الرُّسُوخِ مِنْ عِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ‏.‏

نَعَمْ قَالَ فِي قوله تعالى ‏{‏لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ نُسِخَ مِنْ هَذَا النَّهْيِ الْعَامِّ حُكْمُ الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَهْلٌ يَسْتَأْذِنُونَ بِقَوْلِهِ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ ‏.‏

ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ سُنَّةٌ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ‏,‏ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كُلِّ مَسْنُونٍ ‏.‏

وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَاجِبَاتِ ‏.‏

جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا ‏.‏

وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ النَّاظِمُ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ ‏.‏

قَالَ الْحِجَازِيُّ‏:‏ قَدْ لَا يَكُونُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ حَجَّةٌ أَعْنِي فِي كَوْنِ الِاسْتِئْذَانِ نَفْسِهِ سُنَّةً ‏,‏ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يُسَنُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ أَنَّ الْمُرَادَ صِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ ‏,‏ أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ فَقَطْ أَيْ لَا يَزِيدُ الْمُسْتَأْذِنُ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا لَمْ يُجَبْ لِئَلَّا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ النَّاظِمِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ثَلَاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمِ وَلَا سِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ ‏.‏

 مطلب فِي صِفَةِ الِاسْتِئْذَانِ

‏(‏ثَلَاثًا‏)‏ أَيْ وَسُنَّةُ اسْتِئْذَانِهِ لِدُخُولِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ‏.‏

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرْنَا ‏.‏

وَالتَّثْلِيثُ فِي الِاسْتِئْذَانِ سُنَّةٌ إلَّا أَنْ يُجَابَ قَبْلَهَا ‏,‏ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ وَإِلَّا زَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ سَمِعَ ‏,‏ فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ ‏,‏ وَيَأْتِي فِي النَّظْمِ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ ‏"‏ وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ‏.‏

وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ أَلِجُ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ اُخْرُجْ إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ‏؟‏ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ ‏.‏

رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ‏.‏

وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى ‏.‏

وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى أَنَّ صِفَةَ الِاسْتِئْذَانِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَقَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ فَقَالَ‏:‏ إذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا ‏.‏

وَالِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ ‏.‏

وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ ‏.‏

وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الْآدَابِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَى قَوْمًا لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ ‏.‏

حَدِيثٌ حَسَنٌ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ صَفْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ كِلْدَةَ بْنَ الْجُنَيْدِ أَخْبَرَهُ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَأٍ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى الْوَادِي ‏.‏

قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ أَسْتَأْذِنُ ‏,‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ارْجِعْ فَقُلْ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ‏,‏ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ ‏.‏

حَدِيثٌ جَيِّدٌ ‏.‏

وَعَمْرُو بْنُ صَفْوَانَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ‏.‏

وَفِي لَفْظٍ بِلَبَنٍ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ وَلَمْ يَزِدْ أَأَدْخُلُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ‏:‏ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ ‏.‏

الْجِدَايَةُ مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ مَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةً بِمَنْزِلَةِ الْجَدْيِ فِي أَوْلَادِ الْمَعْزِ ‏.‏

وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْجِدَايَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ إذَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةً ‏,‏ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهَا الذَّكَرَ مِنْهَا ‏,‏ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ‏:‏ الْجِدَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْعِنَاقِ مِنْ الْغَنَمِ ‏.‏

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ مَعَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ كِلْدَةَ بْنِ الْجُنَيْدِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَنًا وَضَغَابِيسَ وَجِدَايَةَ قَالَ وَالضَّغَابِيسُ صِغَارُ الْقِثَّاءِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَاحِدَتُهَا ضُغْبُوسٌ ‏,‏ وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ يُسْلَقُ بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَيُؤْكَلُ ‏.‏

وَالثُّمَامُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ يُقَالُ لِمَا لَا يَعْسُرُ تَنَاوُلُهُ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ ‏;‏ لِأَنَّهُ يَطُولُ انْتَهَى ‏.‏

ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى ‏(‏وَمَكْرُوهٌ‏)‏ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ‏(‏دُخُولٌ‏)‏ لِرَجُلٍ ‏(‏هَاجِمٍ‏)‏ أَيْ بَغْتَةً عَلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَحْنُحٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ وَلَا تَحَرُّكِ نَعْلٍ ‏,‏ يُقَالُ هَجَمَ عَلَيْهِ هُجُومًا انْتَهَى إلَيْهِ بَغْتَةً أَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

وَفِي النِّهَايَةِ الْهُجُومُ عَلَى الْقَوْمِ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ‏.‏ انْتَهَى

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَرِّكَ نَعْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ حَتَّى إلَى بَيْتِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ رضي الله عنه‏:‏ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَتَنَحْنَحُ ‏.‏

وَقَالَ مُهَنَّا‏:‏ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى أَهْلِهِ أَعْنِي زَوْجَتَهُ‏؟‏ قَالَ مَا أَكْرَهُ ذَاكَ إنْ اسْتَأْذَنَ مَا يَضُرُّهُ ‏,‏ قُلْت‏:‏ زَوْجَتُهُ وَهُوَ يَرَاهَا فِي جَمِيعِ حَالَاتِهَا ‏,‏ فَسَكَتَ عَنِّي فَهَذِهِ نُصُوصُهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ فِيهَا الِاسْتِئْذَانَ ‏,‏ وَاسْتَحَبَّ النَّحْنَحَةَ أَوْ تَحْرِيكَ النَّعْلِ لِئَلَّا يَرَاهَا عَلَى حَالَةٍ لَا تُعْجِبُهَا وَلَا تُعْجِبُهُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا

‏(‏وَلَا سِيَّمَا‏)‏ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُدْخِلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأُولَى أَيْ يُكْرَهُ دُخُولُ الْهَاجِمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا إعْلَامٍ كَرَاهَةً أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى حَيْثُ كَانَ الْهَاجِمُ قَادِمًا ‏(‏مِنْ سَفْرَةٍ‏)‏ كَانَ قَدْ سافرها وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً ‏(‏وَ‏)‏ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ قَادِمًا مِنْ مَكَانٍ ذِي ‏(‏تَبَعُّدِ‏)‏ أَيْ بُعْدٍ ‏,‏ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُسَافِرًا سَفَرًا بَعِيدًا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ لَيْلًا ‏,‏ ‏;‏ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ طُرُوقًا ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا يتخونهم أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ ‏.‏

قَالَ الْخَلَّالُ‏:‏ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ طُرُوقًا ‏"‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يُؤْذِنُهُمْ قَبْلُ بِكِتَابٍ ‏,‏ وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي آخِرِهِ ‏"‏ كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُعْنِيَةُ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي مُسْلِمٍ ‏"‏ يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ ‏"‏ وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرٍ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَجِيءَ أَهْلَهُ طُرُوقًا ‏"‏ وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ لَيْلًا ‏.‏

يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَتَاك لَيْلًا طَارِقٌ ‏,‏ وَمِنْهُ قوله تعالى ‏{‏وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ‏}‏ يَعْنِي النَّجْمَ ‏;‏ لِأَنَّهُ يَطْرُقُ بِطُلُوعِهِ لَيْلًا ‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ ‏"‏ تَسْتَحِدَّ ‏"‏ أَيْ تُصْلِحَ مِنْ شَأْنِ نَفْسِهَا ‏,‏ وَالِاسْتِحْدَادُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَدِيدِ ‏,‏ وَهُوَ إزَالَةُ الشَّعْرِ بِالْمُوسَى ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏الْمُعْنِيَةُ‏)‏ يَعْنِي ذَاتَ الْعَانَةِ ‏,‏ يُقَالُ‏:‏ اسْتَعَانَ الرَّجُلُ يَعْنِي إذَا حَلَقَ عَانَتَهُ ‏,‏ وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِحْدَادُ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّوْرِيَةِ وَالْمُرَادُ كَيْ تَمْتَشِطَ وَتُهَيِّئَ حَالَهَا ‏,‏ وَتُزِيلَ الشَّعْرَ الَّذِي تَعَافُّهُ النُّفُوسُ وَهُوَ شَعْرُ الْعَانَةِ ‏.‏

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ‏:‏ مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَنْ طَالَ سَفَرُهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَيْلًا بَغْتَةً ‏,‏ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا إذَا كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا تَتَوَقَّعُ امْرَأَتُهُ إتْيَانَهُ لَيْلًا فَلَا بَأْسَ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهَانِ‏:‏ الْأَوَّلُ‏)‏ اسْتَوْجَبَهُ صَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى أَنَّ مَنْ طَرَقَ أَهْلَهُ لَيْلًا طَلَبًا لِعَثَرَاتِهِمْ وَتَتَبُّعًا لِعَوْرَاتِهِمْ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّهُ مِنْ التَّجَسُّسِ وَالْإِكْرَاهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَ بِذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ ‏.‏

وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يُؤْذِنُهُمْ بِكِتَابٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ‏,‏ وَإِلَّا لَكَانَ قَالَ الْإِمَامُ يَدْخُلُ نَهَارًا وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّاظِمِ ‏,‏ فَإِنَّ كَلَامَهُ يَشْمَلُ النَّهَارَ كَاللَّيْلِ ‏.‏

‏(‏الثَّانِي‏)‏‏:‏ ظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِ النَّاظِمِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَعِيدِ ‏,‏ بَلْ يَدُلُّ عَطْفُهُ الْبَعِيدُ عَلَى السَّفَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْقَصِيرُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَطْفِ ‏.‏

نَعَمْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَجَّاوِيِّ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِي السَّفَرِ الْقَرِيبِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏